سيرة الشاي( اقرأ واشرب بـ مزاج)
سيد محمود حسن
غالبية الناس تشرب الشاي باعتباره مشروبا عاديا, لكن قلة منهم تعرف أن له قصة تقترب في مضمونها من قصة أي مذهب فلسفي عميق.
وأخيرا نشر مشروع كلمة الذي تديره هيئة أبوظبي للثقافة والتراث ترجمة عربية قام بها الشاعر الفلسطيني سامر أبو هواش لأبرز كتاب في العالم تناول هذه القصة وعنوانه( كتاب الشاي), وهو للمؤلف الياباني أوكاكورا كاكوزو(1853 ـ1908) الذي ينتمي إلي عائلة الساموراي, ودرس الفلسفة والاقتصاد السياسي في جامعة طوكيو, وكان قيما مساعدا علي القسم الصيني والياباني في متحف بوسطن للفنون الجميلة, وقد أصدر كتابه باللغة الإنجليزية في عام1906, ومنذ ذلك الحين والكتاب ضمن أكثر الكتب مبيعا في العالم, ليس فقط لأنه يقدم تاريخ هذا المشروب السحري, ولكن لأنه يقدم أيضا درسا مهما في دروس الحفاظ علي الهوية الوطنية, ليس باعتبارها مفهوما مغلقا, وإنما بوصفها ساحة تتسع لتفاعل أكثر من ثقافة.
ويشير أبوهواش في مقدمته المتميزة للترجمة إلي أن الكتاب يروي انطلاقا من الشاي قصة الحضارة اليابانية ونمط تفكير ونظرات جمالية مازالت حية وصالحة لأن تكون موضع نقاش, فأي حديث يمكن أن تسمعه عن مذهب الشاي أو فلسفته يبدو مستغربا الآن, إذ من الصعب تصور أن الفلسفة والأفكار كانت جزءا من ولادة الشاي كمشروب آسيوي قبل انتشاره كمشروب كوني علي النحو الذي نعرفه حاليا.
ولعل النقطة المركزية في الكتاب كون المؤلف يري في الشاي أو في كوب الإنسانية ـ كما يسميه ـ الوسيط ـ الذي قد يمكن القارئ الغربي من التعرف علي حضارته من موقع الند, لأن ثمة خصوصية لا يمكن إنكارها فيها تشمل التاريخ والعمران والطقوس وأنماط التفكير والنظرات الجمالية.
وفي سياق هذا الشمول, يقدم أوكاكورا نصا بديعا في الدفاع عن هويته التي تنطوي علي أنماط عيش تستحق الاحتفاء, ويري أن التواصل الحقيقي لا يقوم علي التقليد, ولكن علي التفاعل الخلاق والفهم العميق وليس الاستلاب أو هيمنة طرف علي آخر.
وفي مواضع متعددة في الكتاب, يشرح المؤلف ما يعرف بـ الشايية أو فلسفة الشاي التي لا تمت بصلة مباشرة لعلم الجمال بالمعني المألوف ولكنها فلسفة قائمة علي البساطة وهي هندسة أخلاقية يصعب فهمها بمعزل عن المعرفة العميقة بسياق الفلسفة اليابانية القائمة علي تأمل الذات وسبر أغوارها نتيجة لعزلة اليابان الجغرافية, وفي سياق الثقافة اليابانية يصعب تجاهل حضور الشاي, ففي طقسه داخل هذه الثقافة تراكم تحول فيه من شراب إلي مثال بل إلي عقيدة تتعلق بفن للحياة وواجب سري بين الضيف والمضيف لكي ينتجا في لحظة مشتركة أقصي درجات الغبطة الدنيوية تلك التي يوجدها مشروب التفت حوله الإنسانية كلها, وبات طقسا يحظي بالاحترام الدولي.
ويستعرض الكتاب المراحل التاريخية المختلفة التي مر بها الشاي ليصل إلي تلك المكانة منذ أن ظهر لأول مرة مع الرحالة العرب, وحتي أصبح إحدي علامات حرب الاستقلال الأمريكية, واللافت أن تلك المسيرة جري تعطيلها دائما بفتاوي عملت علي تحريمه باعتباره شكلا من أشكال الهرطقة, بل وعادة قذرة ينبغي التخلص منها, وفي المقابل وجد الشاي دائما من يدافع عنه بوصفه فن إخفاء الجمال بغرض اكتشافه, فهو ليس إلا عملا فنيا يتطلب يدا بارعة.
ووفقا لهذه الصفات تم تقسيم مسيرته إلي مراحل علي غرار أي فن, كما أن له مدارس ومراتب, حيث ننتمي نحن أبناء العصر الحاضر إلي مدرسة الشاي المنقوع ولسنا من بين أتباع التاوية لنؤمن بأن تلك النبتة يقبع فيها سر الخلود ومن الفلسفة إلي فضاء المكان, حيث يشرح الكاتب بجمال فائق طقسا قديما كان مرتبطا بالشاي يتعلق بعمارة حجرة الشاي التي تسمي مسكن الوهم والتي تبني خصيصا لهذا الطقس وتتناقض كليا مع العمارة الكلاسيكية اليابانية, لأنها توجد نموذجا خاصا قائما علي الزهد, حيث المطلوب فيها كسر العلاقة بالعالم الخارجي وإنتاج إحساس يفضي إلي المتعة الكاملة لجمالية التذوق فهي مصنوعة لـ معلم الشاي وحيث تتقرر لكل فرد صلته بذاته.
وأخيرا يمكن القول إن هذا الكتاب بالإضافة إلي طرافة موضوعه, فإن لغته أقرب للشعر منها للتاريخ, وإنتاج الأفكار فهي لغة تأملية مفتوحة علي أكثر من فضاء, تتسم بجمالية خاصة يسهل إدراكها من السطر الأول فيه.
منقوووووووووووول من جريدة الأهرام
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]