Admin Admin
عدد المساهمات : 1631 تاريخ التسجيل : 16/02/2010
| موضوع: الحسن البصرىّ .. رائد المتصوّفين وسيّد التابعين الثلاثاء أغسطس 02 2011, 10:51 | |
| هو الحسن بن أبى الحسن يسار البصرى، ولد فى بيت أم سلمة زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم سنة ٢١ هـ، فى السنة الثانية من خلافة عمر بن الخطاب رضى الله عنه، إذ كانت والدته مولاة لأم سلمة، التى قيل إنها كانت ترضعه أحياناً، حين يشتد به الجوع وأمه غائبة. ودعا له الفاروق ذات يوم قائلاً: «اللهم فقهه فى الدين وحببه إلى الناس». وقد حفظ الحسن القرآن فى العاشرة من عمره. دائرة معارف كاملة، فعلمه الغزير وإحاطته الواسعة، انعكست على أقواله وكتاباته، إذ قربه الفقه والحديث والقراءات واللغة والبيان والمنطق من الزهد، ليكون بذلك أحد أوائل كبار المتصوفين، إن لم يكن رائدهم جميعاً، من دون ادعاء ولا خروج ولا دروشة، بما جعله مثلاً لكل من يريد أن يسير فى طريق السالكين من دون تفريط ولا إفراط، وجعله نموذجاً أمام من يطالبون بـ«التصوف الحقيقى» الذى كان عليه الصحابة والتابعون. فالبصرى لم ينغلق على نفسه فى صومعة، ولم يهينها فى دروشة، إنما مارس التصوف وذاقه تحت مظلة الشرع. هو الحسن بن أبى الحسن يسار البصرى، ولد فى بيت أم سلمة زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم سنة ٢١ هـ، فى السنة الثانية من خلافة عمر بن الخطاب رضى الله عنه، إذ كانت والدته مولاة لأم سلمة، التى قيل إنها كانت ترضعه أحياناً، حين يشتد به الجوع وأمه غائبة. ودعا له الفاروق ذات يوم قائلاً: «اللهم فقهه فى الدين وحببه إلى الناس». وقد حفظ الحسن القرآن فى العاشرة من عمره. ومكث البصرى فى وادى القرى، ثم انتقل إلى المدينة المنورة، وعاش أيام صباه فى تلك البقعة الطاهرة بين أصحاب النبى وزوجاته. وفى عام ٣٦ هـ انتقل برفقة أسرته إلى موطنه الأصلى فى البصرة فى العراق، التى كانت آنذاك مدينة عامرة بالفقهاء والعلماء، وتضج بمناقشات وجدل دينى وفكرى واسع الأرجاء، وعميق الأثر، يتصادم فيه الجديد مع القديم، والعقل مع القلب، والوجدان مع البرهان. وكان لهذا الجدل وقعه على الحسن نفسه، وهو مشهد يلخصه مثال جلى فى تاريخ الفكر والفقه الإسلامى برمته، يرتبط بواصل بن عطاء، الذى انفصل عن أستاذه حسن البصرى، وشكّل حلقة تيار المعتزلة الأولى، ولم يقابل الأستاذ فعلة تلميذه بغضب ولا تكفير، ولم يستكثر ما أقدم عليه، إنما اكتفى بابتسامة، وأتبعها بقوله: «اعتزلنا واصل»، فمنح جماعة تلميذه اسمها الذى لا يزال صلباً فى قلب الفكر الإسلامى، حتى هذه اللحظة. عاش البصرى فى هذه المدينة، التى استمد منها كنيته، والتقى كثيرين من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم فجلس إليهم، وسمع منهم. وتردد على مسجد البصرة فكان يتصدر حلقات الدرس. ولم يكتف بالعلم والفقه، بل شارك فى الجهاد، إذ قاتل وهو شاب يافع فى معارك وقعت شرق إيران سنة ٤٣ هـ، وقادها الأحنف بن قيس خلال عهد معاوية بن أبى سفيان. كذلك شارك فى فتح كابور مع عبدالرحمن بن سمرة، وكان المهلب بن أبى صفرة يقدمه إلى القتال، ووصفه زملاؤه من الجند بأنه كان من الشجعان الموصوفين. وقد لفت البصرى انتباه من عاصروه من أهل الرواية والدراية على حد سواء، فكان له فى عقولهم مكانة، وفى قلوبهم منزلة، فنقلوا إعجابهم به إلى كل من سأل عنه، أو حتى من سمع به. فها هو ثابت بن قرة يصفه بأنه «من درارى النجوم علماً وتقوى وزهداً وفصاحة، مواعظه تصل إلى القلوب، وألفاظه تلتبس بالعقول، وما أعرفه له ثانياً، قريباً ولا مدانياً، كان نظره وفق مخبره، وعلانيته وزن سريرته، يجمع مجلسه ضروب الناس، وأصناف اللباس لما يوسعهم من بيانه، هذا يأخذ عنه الحديث، وهذا يلقن منه التأويل، وهذا يسمع الحرام والحلال، وهذا يتبع فى كلامه العربية، وهذا يجرد له المقالة، وهذا يحكى له الفتيا، وهذا يتعلم الحكم والقضاء، وهذا يسمع الموعظة، وهو فى جميع هذا كالبحر العجاج تدفقاً، وكالسراج الوهاج تألقاً، يجلس تحت كرسيه قتادة صاحب التفسير، وعمرو بن واصل صاحب الكلام، وابن أبى إسحق صاحب النحو، وفرقد السبنجى صاحب الرقائق، وأشباه هؤلاء ونظراؤهم فمن ذا مثله، ومن يجرى مجراه». وقال فيه محمد بن سعد: «كان الحسن فقيهاً، ثقة، حجة، مأموناً، ناسكاً، كثير العلم، فصيحاً، وسيماً»، وقال عنه أبو عمرو بن العلاء: ما رأيت أفصح من الحسن البصرى. وحين سئل خالد بن صفوان، وكان أحد فصحاء العرب، عنه قال: إنه امرؤٌ سريرته كعلانيته، وقوله كفعله، إذا أمر بمعروف كان أعمل الناس به، وإذا نهى عن منكر كان أترك الناس له، وقد رأيته مستغنياً عن الناس زاهداً بما فى أيديهم، ورأيت الناس محتاجين إليه طالبين ما عنده. يتجلى تصوف الحسن البصرى فى ذمه الدنيا، وإعراضه عنها، وحثه على عدم الإغراق فى نعمها الزائلة، وزينتها الزائفة. وتتعدد أقواله فى هذا المقام حتى تشكل ملمحاً مهماً من ملامح فكره وفقهه، فها هو يقول: الله يعطى العبد من الدنيا مكراً به، إلا كان عاجز الرأي. وينظر البصرى إلى الدنيا بوصفها وديعة لدى البشر، وعليهم أن يردوها إلى من أودعها إياهم كما هى، من دون تمسك بها بالباطل، أو طمع فيها بغير حق، ولا انكسار أمامها بغير سلطان نفس. وهنا أوضح: «أدركت أقواماً ما كانت الدنيا عندهم وديعة حتى ردوها إلى من ائتمنهم عليها ثم راحوا خفافاً غير مثقلين، وأدركت أقواماً كانت الدنيا تتعرض لأحدهم، وإنه لمجهود فيتركها مخافة التباعة. ويصل الأمر إلى أن يعد البصرى عشق الدنيا والإغراق فى ملذاتها إحدى كبائر الإثم، وأنها الدرب الوسيع الذى سلكه الشيطان إلى نفوس البشر، فأوقعهم فى الشرك والكفر، وهنا علّق: «ما عجبت من شىء كعجبى من رجل لا يحسب حب الدنيا من الكبائر، وأيم الله إن حبها لمن أكبر الكبائر، وهل تشعبت الكبائر إلا من أجلها؟ وهل عبدت الأصنام، وعصى الرحمن إلا لحب الدنيا وإيثارها». وردد أيضاً: «أيها الناس، والله ما أعز هذا الدرهم أحد إلا أذله الله تعالى يوم القيامة»، وذكر أن إبليس لعنه الله، لما ضرب الدينار والدرهم، نقرهما وجعلهما على رأسه، وقال: «من أحبكما فهو عبدى حقاً أصرفه كيف أشاء». كذلك قال: «إذا أحب بنو آدم الدنيا فما أبالى ألا يعبدوا صنماً، ولا يتخذوا إلهاً غير الله رباً، حبهم الدنيا يوردهم المهالك». لهذا أشار البصرى إلى أن «المؤمن الفطن اللبيب فى الدنيا كالغريب لا يجزع من ذلها، ولا يأنس بقربها، ولا يأسى لبعدها، ولا يأمن غيرها، للناس حال وله حال». بل كان البصرى يعتقد أن من خلوا الدنيا وراء ظهورهم هم من يسترهم الله يوم لا ظل إلا ظله: {يحشر الناس عراة يوم القيامة ما خلا أهل الزهادة فى الدنيا}. كذلك يتجلى تصوف البصرى فى حضه على الصبر الجميل، الذى هو فى نظره {صبران صبر عند المصيبة، وصبر عند المعصية}، وأن {من قدر على ذلك فقد نال أفضل الصبرين}. ويرتبط الصبر بالزهد والحق والفلاح فى رؤية البصرى، فالزاهد عنده هو {من لم يغلب الحرام صبره، والحلال شكره}، والحق لديه هو {مر لا يصبر عليه إلا من عرف حسن العاقبة، ومن رجا الثواب خاف عقابه}. والفلاح فى مذهبه ينطوى على صبر عميق: {إنكم لا تنالون ما تحبون إلا بترك ما تشتهون، ولا تدركون ما تأملون إلا بالصبر على ما تكرهون}. أما الخاصية الثالثة من خصائص التصوف لدى البصرى فتتمثل فى الحزن، فالمؤمن عنده يجب أن يكون حزيناً غريباً، ليس اكتئاباً ولا نفوراً مريضاً، إنما تعفف ورقة إحساس، وانشغال بما يؤلم الآخرين، ومواساة لهم على ما هم فيه من كدر. ولهذا قيل عنه إنه كان كثير الحزن، عظيم الهيبة، وهو ما تبين صورته فى قول أحد الصحابة {ما رأيت أحدا أطول حزناً من الحسن، ما رأيته إلا حسبته حديث عهد بمصيبة}. وقال البصرى: {نضحك ولا ندرى لعل الله قد اطلع على بعض أعمالنا. فقال: لا أقبل منكم شيئاً، ويحك يا ابن آدم، هل لك بمحاربة الله طاقة؟ إن من عصى الله فقد حاربه، والله أدركت سبعين بدرياً، لو رأيتموهم قلتم مجانين، ولو رأوا خياركم لقالوا ما لهؤلاء من خلاق، ولو رأوا شراركم لقالوا: ما يؤمن هؤلاء بيوم الحساب}. وقال حمزة الأعمى: {كنت أدخل على الحسن منزله وهو يبكى، وربما جئت إليه وهو يصلى فأسمع بكاءه ونحيبه فقلت له يوماً: إنك تكثر البكاء، فقال: يا بنى، ماذا يصنع المؤمن إذا لم يبكِ؟ يا بنى إن البكاء داع إلى الرحمة. فإن استطعت أن تكون عمرك باكياً فافعل، لعله تعالى أن يرحمك. وروى الطبرانى عنه: {إن قوماً ألهتهم أمانى المغفرة، رجاء الرحمة حتى خرجوا من الدنيا وليست لهم أعمال صالحة}. وقال أحدهم: {إنى لحسن الظن بالله وأرجو رحمة الله، وكذب، ولو أحسن الظن بالله لأحسن العمل لله، ولو رجا رحمة الله لطلبها بالأعمال الصالحة، يوشك من دخل المفازة من غير زاد ولا ماء أن يهلك}. رغم أن البصرى كان يطبق القاعدة التى تقول: {٦٠ سنة من حاكم جائر خير من سنة بلا حاكم} خوفاً من الفوضى والاضطراب وتشرذم أركان الدولة وتحللها، فإنه لم يشجع ظالماً على ظلمه، أو مستبداً على تجبره، ولم يكن يهاب أى حاكم مهما بلغ تسلطه وتعنته وتجرؤه على حرمات الله وحقوق الناس. عاش الحسن الشطر الأكبر من حياته فى دولة بنى أمية، وكان موقفه متحفظاً على الأحداث السياسية، خصوصاً ما جر إلى الفتنة وسفك الدماء، إذ لم يخرج مع أى ثورة مسلحة ولو كانت باسم الإسلام، وكان يرى أن الخروج يؤدى إلى الفوضى، وطمع الأعداء فى المسلمين. وكان هذا الموقف ينبع أيضاً من اعتقاد الحسن فى أن السلطة مفسدة، وأن الناس يخرجون من يد ظالم إلى ظالم، ولذا فإن شق إصلاح الحاكم فإنه يمكن إصلاح المحكومين من دون عنت ولا عناء شديد. أما إن كان الحاكم عادلاً صالحاً مطبقاً أحكام الله مثل عمر بن عبدالعزيز، فإن الحسن كان ينصحه، ويقبل القضاء فى عهده ليعينه على أداء مهمته. وكان للبصرى هيبة فى نفوس الحكام، وهو ما تسجله واقعة لا تنسى. فحين ولى الحجّاج بن يوسف الثقفى العراق، وطغى فى ولايته وتجبّر، كان الحسن البصرى أحدَ الرجال القلائل الذين تصدّوا لطغيانه، وجهروا بين الناس بسوء أفعاله وصدعوا بكلمة الحق فى وجهه، فعَلِمَ الحجاج أن الحسن البصرى يتهجَّم عليه فى مجلس عام، فماذا فعل؟ دخل الحجَّاجُ إلى مجلسه، وهو يتميَّز من الغيظ، وقال لجلاَّسه: تبًّا لكم، سُحقاً، يقوم عبدٌ من عبيد أهل البصرة، ويقول فينا ما شاء أن يقول، ثم لا يجد فيكم من يردُّه، أو ينكر عليه، والله لأسقينَّكم من دمه يا معشر الجبناء، ثم أمر بالسيف والنطع، ودعا بالجلاد فمَثُل واقفاً بين يديه، ثم وجَّه إلى الحسن بعضَ جنده، وأمرهم أن يأتوا به، ويقطعوا رأسه، وانتهى الأمرُ، وما هو إلا قليل حتى جاء الحسنُ، فشخصتْ نحوه الأبصارُ، ووجفت عليه القلوبُ، فلما رأى الحسنُ السيفَ والنطع والجلادَ حرَّك شفتيه، ثم أقبل على الحجاج، وعليه جلالُ المؤمن، وعزة المسلم، ووقارُ الداعية إلى الله، فلما رآه الحجاجُ على حاله هذه هابه أشدَّ الهيبة، وقال له: {ها هنا يا أبا سعيد، تعالَ اجلس هنا}، فما زال يوسع له ويقول: {ها هنا}، والناس لا يصدَّقون ما يرون، حتى أجلسَه على فراشه، ووضَعَه جنبه، ولما أخذ الحسنُ مجلسه التفت إليه الحجَّاجُ، وجعل يسأله عن بعض أمور الدين، والحسنُ يجيبه عن كلِّ مسألة بجنان ثابت، وبيان ساحر، وعلم واسع، فقال له الحجاج: {أنت سيدُ العلماء يا أبا سعيد}، ثم دعا بغالية، أحد أنواع الطيب، وطيَّب له بها لحيته، وودَّعه. ولما خرج الحسنُ من عنده تبعه حاجبُ الحجاج، وقال له: {يا أبا سعيد، لقد دعاك الحجاجُ لغير ما فعل بك، دعاك ليقتلك، والذى حدث أنه أكرمك، وإنى رأيتك عندما أقبلت، ورأيتَ السيفَ والنطعَ قد حرَّكتَ شفتيك، فماذا قلت؟ فقال الحسن: لقد قلت: يا ولىَ نعمتى، وملاذى عند كربتى، اجعل نقمته برداً وسلاماً علىَّ، كما جعلت النارَ برداً وسلاماً على إبراهيم}. وهناك واقعة أخرى تدل على شجاعة البصرى وثقته فى ربه ونفسه أمام أهل السلطة، وحرصه على أن يقول الحق مهما كلفه من عناء. فحين ولى عمر بن هبيرة الفزارى العراق وأضيفت إليه خرسان فى أيام يزيد بن عبدالملك، استدعى الحسن البصرى ومحمد بن سيرين والشعبى، فقال لهم إن يزيد خليفة الله استخلفه على عباده وأخذ عليهم الميثاق بطاعته وأخذ عهدنا بالسمع والطاعة وقد ولانى ما ترون فيكتب إليّ بالأمر من أمره فأنفذ ذلك الأمر فما ترون؟! فأجاب ابن سيرين والشعبى بقول فيه تقية، وقال ابن هبيرة: {ما تقول يا حسن}، فقال: {يا ابن هبيرة خف الله فى يزيد ولا تخف يزيد فى الله، إن الله يمنعك من يزيد وإن يزيد لا يمنعك من الله، وأوشك أن يبعث إليك ملكاً فيزيلك عن سريرك، ويخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك ثم لا ينجيك إلا عملك يا ابن هبيرة، إن تعص الله فإنما جعل الله هذا السلطان ناصراً لدين الله وعباده فلا تركبن دين الله وعباده بسلطان الله فإنه لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق}. وعلى النقيض من هذا قدم البصرى نصيحة غالية إلى الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز فى رسالة خالدة جاء فيها: {إن الدنيا دار ظعن ليست بدار إقامة إنما أنزل إليها آدم عليه السلام عقوبة، فاحذرها يا أمير المؤمنين، فإن الزاد منها تركها، والغنى فيها فقرها، لها فى كل حين قتيل، تذل من أعزها، وتفقر من جمعها. هى كالسم، يأكله من لا يعرفه وهو حتفه، فكن فيها كالمداوى جراحه، يحتمى قليلا مخافة ما يكره طويلاً، ويصبر على شدة الدواء مخافة طول البلاء. فاحذر هذه الدار الغرارة الخداعة الخيالة التى قد تزينت بخدعها، وفتنت بغرورها، وختلت بآمالها، وتشوفت لخطابها، فأصبحت كالعروس المجلوة، فالعيون إليها ناظرة، والقلوب عليها والهة، والنفوس لها عاشقة، وهى لأزواجها كلهم قاتلة. فعاشق لها قد ظفر منها بحاجته، فاغتر وطغى، ونسى المعاد، فشغل بها لبه، حتى زلت عنها قدمه، فعظمت عليها ندامته، وكثرت حسرته، واجتمعت عليه سكرات الموت وألمه، وحسرات الفوت. وعاشق لم ينل منها بغيته، فعاش بغصته، وذهب بكمده، ولم يدرك منها ما طلب، ولم تسترح نفسه من التعب، فخرج بغير زاد، وقدم على غير مهاد. ما تكون فيها أحذر ما تكون لها، فإن صاحب الدنيا كلما اطمأن منها إلى سرور أشخصته إلى مكروه وصل الرخاء منها بالبلاء، وجعل البقاء فيها إلى فناء سرورها مشوب بالحزن. أمانيها كاذبة، وآمالها باطلة، وصفوها كدر، وعيشها نكد، فلو كان ربنا لم يخبر عنها خبراً، ولم يضرب لها مثلاً، لكانت قد أيقظت النائم، ونبهت الغافل. فكيف وقد جاء من الله فيها واعظ، وعنها زاجر، فمالها عند الله قدر ولا وزن، ولا نظر إليها منذ خلقها. ولقد عرضت على نبينا بمفاتيحها وخزائنها لا ينقصها عند الله جناح بعوضة فأبى أن يقبلها، وكره أن يحب ما أبغض خالقه، أو يرفع ما وضع مليكه فزواها عن الصالحين اختياراً، وبسطها لأعدائه اغتراراً، فيظن المغرور بها المقتدر عليها أنه أكرم بها. ونسى ما صنع الله عز وجل برسوله حين شد الحجر على بطنه}. بلغت شهرة البصرى الآفاق، ووصلت الثقة فيه، والحب له إلى أقصى درجاته. وفى العام العاشر بعد المائة الأولى وفى غرة رجب ليلة الجمعة وافته المنية، فلما شاع الخبر بين الناس ارتجت البصرة كلها رجـًا لموته رضى الله عنه، فغٌسل وكفن، وصلى عليه جمع غفير فى الجامع الذى أمضى عمره فيه، داعيـًا ومعلمـًا وواعظـًا، ثم تبع الناس جنازته بعد صلاة الجمعة، وانشغلوا فى دفنه انشغالاً عميماً، حتى إنه لم تقم صلاة العصر فى البصرة لانشغال الناس بتشييع هذا الرجل العظيم.
| |
|